في أعوام الكُليّة -أتذكّر- قمتُ مع رفاقي بعمل مجلة حائط.. على سبيل الدعابة ألصقتُ زهرةً من البلاستيك على فرخ المجلة، وكتبت أنني أراهن أن هذه الزهرة سوف تبقى حيث هي أسبوعين دون أن تُمس، لأننا سنبرهن على أننا شعب متحضّر راق. علّقنا المجلة.. ذهبتُ لأشتري سجائر.. عدتُ بعد ربع ساعة؛ فوجدت أن الزهرة غير موجودة!.. لقد دام التحضّر ربع ساعة فقط!
السؤال هنا هو: ماذا يمكن عمله بزهرةٍ بلاستيكيةٍ رخيصة؟.. لا شيء في الواقع.. لكن هناك قاعدة رئيسة تقول أن أي شيء يمكن أن يُسرق سوف يُسرق. السرقة على سبيل (الاستخسار) لا توجد إلا في مصر على قدر علمي. ثم أن هناك لذّة التحدي والتخريب ورفض أن يختبرك أحد.. عملية نفسية معقّدة جدًا.
كانت هذه بدايات التغير المرعب في الشخصية المصرية، ومع الوقت عرفتُ أمثلةً عديدةً في السنوات التالية وعلى مدى 25 عامًا. قد يبدو المثال شخصيًا جدًا لكني فعلًا لا أفهم مبرر سرقة أي كتاب لي بعد ربع ساعة من ظهوره في السوق، وفي الغالب يتم هذا مع كتب رخيصة جدًا. لكنها طبيعة الاستخسار.. والأهم أن كل منتدى على النت يسرق كتاباتي يكتب صاحبه: "نسألكم الدعاء"، فيردّون عليه: "جعل الله هذا في ميزان حسناتك" و"بارك الله فيك يا أخي". متدينون جدًا هؤلاء اللصوص. لاحظ التناقض الغريب.. فلو كنت أنا شيطانًا رجيمًا يريدون تدميره بسرقة أعماله، فلماذا يقرأونها؟.. ولو كنت أنا مجرد كاتب جيد، فلماذا السرقة منه؟
كل هذا مقبول ويمكن أن نعتبره نوعًا من الظُرف المصري المبالغ فيه، لكن الأمر يتنامى بشكل مروِّع وبين لحظةٍ وأخرى.. وفي كل الأحوال هناك ذلك التناقض الرهيب بين الأفعال والأقوال، وبين جوهر الدين وبين التديُّن الظاهري.
جلستُ منذ عامٍ في ميني باص، وكان السائق يريد تشغيل أغان تروق له. هنا صاح أحد الجالسين في المقعد الخلفي بصوت مزق آذاننا: "شغل قرآن يا أسطى!"، تجاهل السائق الطلب؛ هنا انفجر الراكب بسيلٍ من الشتائم الفاحشة ضد السائق، وكلها تتعلق بسلوك الأم الجنسي.. وتوعده بأنه (حيشيل وِشّه) لو لم يفعل. تأملت الراكب ورأيت أثر المطواة الواضح على خدّه وتساءلت: ماذا سيفعله بسماع القرآن مع كل هذا الفُحش؟ لكن السائق على كل حال شعر بالرعب وأدار شريط قرآن فعلًا؛ فانشغل الراكب في الكلام مع جاره وقد اطمأن.. وأؤكد أنه لم يصغ لآيةٍ واحدة!
هذا الموقف في رأيي يلخّص مصر اليوم.. كلام كثير جدًا عن الدين لكن الأخلاق تنحدر بلا توقف.
• من مقال: لن يتغيّروا أبدًا.